كيف أيقظ إيماني؟
يتردد كثيرًا على الساحة الإسلامية في هذه الآونةمصطلح "إيقاظ الإيمان"، وضرورة الاهتمام به وإعطائه الأولوية في الأهداف التربويةالتي تُعنى بتكوين الشخصية المسلمة، وهذا أمرٌ طيبٌ جديرٌ بالتشجيع والمساندة منالجميع، وكيف لا ومشكلة الأمة بالأساس مشكلةٌ إيمانيةٌ ولن ينصلح حالها إلابالإيمان
(وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139]
ولكن لكي يُؤتي هذا الاهتمامُ بإيقاظ الإيمانثمارَه المرجوَّة؛ فلابد من الاتفاق على المقصود بهذه اليقظة أولا؛
فليست هي مجردأداء الصلوات بالمسجد، وصلاة النوافل، والإكثار من ذكر الله؛ فكم من شخص يفعل ذلكوفي نفس الوقت تجده شديدَ الحرص على المال، يحسب كل شيء، ويُفكِّر في حقِّه أولاًويتنصل من حقوق الآخرين، شديدَ التركيز على الدنيا؛ إذا ذهب لشراء شيءٍ تجده ينتقلبين الحوانيت للبحث عن الأرخص سِعرًا؛ ولا يملُّ من المساومة لتخفيض السعر قدرالمستطاع، وإذا ما ساعد غيره فبحسابٍ شديدٍ، يُصاب بالهلع إذا ما أُصيب مالُهبخسارة ولو طفيفة، أو ضاعت من يديه صفقة رابحة!.
عندما يستيقظ الإيمان، وتشتعل جذوته في القلب؛فإن هذا من شأنه أن يجعل صاحب هذا القلب يدرك حقيقة الدنيا، فتصغُر في عينيه، وتهونعليه، ويرى المال على حقيقته؛ بأنه "مال الله"، وأنه مستخلفٌ فيه من قِبَلِه سبحانهوتعالى، وأن الذي يُرضي صاحبه هو إنفاقه في أوجه الخير ما وسعهذلك.
إن المال هو أهم رمز للدنيا، وعندما نرى من شخصٍما تلهُّفًا على المال، وحرصًا عليه، وخوفًا على فواته، وضِيقًا من نقصانه.. فإنهذا يُعطي دلالةً قويةً على أن الدنيا في قلبهتحتلُّ مساحة كبيرةً، وأن إيمانه وإنكان موجودًا إلا أنه إيمان مُخدَّر نائم.
فإن قلت: ولكن هناك بعض الناس ينفقون في سبيلالله كثيرًا، ومع ذلك فهم مقصِّرون في الطاعات، ويتجرَّؤون على فعل بعضالمعاصي!!.
أجل.. هذا موجود بالفعل عند البعض، ولعل إنفاقهمفي سبيل الله، في هذه الحالة، مردّه إلى تربيتهم الأولى التي عوَّدتهم على السخاءففي هذا الحديث: عنعبد الله بن مسعود قال: قلنا: يا رسول الله، قوله تعالى) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَىنُورٍ مِنْ رَبِّهِ) )الزمر: من الآية 22)، كيف انشرح الصدر؟ قال:"إذا دخلالنورُ القلبَ انشرح وانفتح"، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابةإلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله" (أخرجهالحاكم والبيهقي)
فالعلامة الأولى كما في الحديث هي: الإنابة إلىدار الخلود، ومن مظاهرها: المسارعة إلى فعل الخير بأنواعه، والورع والحساسيةالشديدة تجاه الحرام وكل ما فيه شبهة، وتقديم مصالح الدين على جميع مصالح الدنياعند تعارضهما.
أما مظاهر العلامة الثانية ليقظة القلب "التجافيعن دار الغرور"؛ فهي عدم التلهُّف على تحصيل الدنيا، وعدم الحزن على فواتها أونقصانها، وقلة التفكير فيها، وعدم حسد الآخرين عليها، أو التطلُّع إلى ما عند أهلالثراء فيها؛ إلا رغبةً في الإنفاق في سبيل الله.
ومن مظاهر الاستعداد للموت قبل نزوله: المسارعةإلى التوبة الصادقة، ودوام الإنابة إلى الله، والتحلُّل من المظالم، وردُّ الحقوقوالأمانات إلى أهلها.
هذه العلامات ما هي إلا انعكاس ليقظة الإيمانوانشراح الصدر به، وليس العكس .
فالاهتمام بأداء العبادات وإصلاح السلوكيات دونالاهتمام بيقظة القلب من شأنه، وإن نجح من الناحية الشكلية، أن يُنتجَ شخصًامشوَّهًا ذا شخصيتين؛ تجده في المسجد يصلي، ثم في متجره يعامل الناس بغلظة، ولايحافظ على وعده ومواعيده، وقد يُسيء معاملة أهله وأرحامه، ويتهافت على المالتهافُتَ الفَرَاش على النار.
وفي المقابل: عندما نبدأ بالإيمان فنوقظه؛ فإنشجرته تنمو وتزدهر وتثمر ثمارًا يانعةً في كل وقت وكل اتجاه (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِيالسَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِرَبِّهَا) إبراهيم
وقد بدأ الإمام ابن القيم كتابه الرائع مدارجالسالكين بمنزلة "اليقظة"، وقال فيها: "فأول منازل العبودية: اليقظة، وهي انزعاجالقلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين.والله.. ما أنفعَ هذه الروعة!! وما أعظمَقدرها وخطرها!! وما أشدَّ إعانتها على السلوك!! فمن أحسَّ بها فقد أحسَّ، والله،بالفلاح، وإلا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمَّر للهب همَّته للسفر إلى منازلهالأولى، واعلم أن العبد قبل ذلك في نوم الغفلة، قلبه نائم، وطرفه يقظان؛ فأول مراتبهذا النائم: اليقظة والانتباه من النوم".
إن إيقاظ الإيمان يعني دخولَ نورِه القلبَ،واشتعالَ جذوته فيه؛ لينعكس ذلك على العبادات والمعاملات والاهتمامات، ومهما حاولناتحسين هذه الأمور دون البدء بإيقاظ الإيمان بمفهومه الصحيح فإن الناتج سيكونضعيفًا، ولا يتناسب مع الجهد المبذول.
فإن قلت: وكيف نوقظ الإيمان ونشعل جذوته فيالقلب؟.. جاءك الجواب بأن جيل الصحابة ظهرت على أفراده الآثار الكاملة ليقظةالإيمان .
فما علينا إذن إلا أن نبحث عن الوسائل التياستخدموها حتى وصلوا إلى هذا المستوى فنستخدمها، وأظن أن بحثنا لن يطول إذا ماأخذنا هذا الأمر بقوة، وحملناه على محمل الجدّ والاهتمام، ولنعلم جميعًا أنه لايصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها.